حجة الوداع

الحجّ

 الحجّ ركنٌ من أركان الإسلام، وعبادةٌ أمر الله تعالى بها، فقد جاء في قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ)،[١] وممّا يُدلّل على ذلك قول الرسول -صلّى الله عليه وسلم- في الحديث: (أيها الناسُ: قد فرض اللهُ عليكم الحجَّ فحجُّوا)،[٢] وجمع الله تعالى في الحجّ بين العبادة القلبية، والفعلية، والقولية، والمالية، وفيه يتحقق أعظم ركنٍ من أركان الإسلام؛ وهو شهادة ألّا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، ويجتمع في الحجّ إقامة الصلاة، وإنفاق المال لمن لم يستطع ذبح الهدي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد النفس، واجتناب المحرمات، ومن الجدير بالذكر أنّ المفسّرين قالوا بأن الله تعالى لمّا شرع الحجّ، أمر خليله إبراهيم -عليه السّلام- بأن يؤذّن في الناس بالحجّ فقال إبراهيم: (يا رب: كيف أبلّغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟!) فقال له الله تعالى: (نادِ وعلينا البلاغ)، فصعد إبراهيم على جبل الصفا، وقيل: أبو قبيس، وقيل: مقامه، وقيل: الحِجر، ثمّ نادى وقال: (إنّ ربكم اتخذ بيتاً فحجّوه)، فبلغ صوته أنحاء الأرض، وأجابه كلّ شيءٍ سمعه من حجرٍ، وشجرٍ، ومن كَتَب الله تعالى له أن يحُج إلى يوم القيامة، قائلين: (لبّيك اللهم لبيك).[٣]

ومن فوائد الحج أنّه يُدرّب المسلمين على تحمّل مصاعب العيش، والصبر على الشدائد، فيتهيّأ المسلم لبذل الغالي والنفيس في سبيل الله إذا دعا داعي الجهاد، وكذلك يُقوّي الحجّ الإيمان بالله تعالى، ويُهذّب النفس، ويُكفّر الذنوب والسيئات إلا ما يتعلق بحقوق العباد، بالإضافة إلى التطبيق العملي للمساواة التامة بين الناس، فلا فرق بين غني وفقير، أو أبيض وأسود، أو رئيس ومرؤوس، ويُرسّخ الشعور بوحدة المسلمين، إذ إنّ دينهم واحد، ورسولهم واحد، ولباسهم واحد، وينادون بلسان واحد: (لبّيك اللهم لبّيك).[٣]

حجة الوداع

 فرض الله تعالى الحجّ في أواخر العام التاسع للهجرة، بعد أن فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكّة، وبلّغ الرسالة حتى دخل الناس في الإسلام أفواجاً، فأعلن النبي -عليه الصّلاة والسّلام- نيّته للحج في ذلك العام، فقدم الناس من شتى الأماكن إلى المدينة المنوّرة يريدون الحجّ مع رسول الله، ثمّ خرجوا في الخامس والعشرين من ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة، ولمّا بلغوا ذا الحليفة، أحرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأهلّ بالحج والعمرة وقرن بينهما، ثمّ تايع السير وهو يُلبّي حتى اقترب من مكّة، فنزل في ذي طوى، وبات فيها ليلة الرابع من ذي الحجة، وفي الصباح دخل مكّة، وتوجّه إلى المسجد الحرام، فطاف بالبيت ثمّ سعى بين الصفا والمروة، ولكنّه لم يتحلّل من إحرامه؛ لأنّه كان قارناً، ثمّ ساق الهدي معه، ومكث في مكة حتى صبيحة اليوم الثامن من ذي الحجة، حيث انطلق ومن معه من الصحابة -رضي الله عنهم- إلى مِنى، فصلّى بالناس هناك: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ثمّ انتظر حتى طلعت الشمس؛ ليتوجّه إلى موقعٍ بالقرب من عرفات اسمه نمرة، فضُربت له قبةٌ من شعرٍ هناك، وجلس فيها حتى زالت الشمس، ثمّ ركب ناقته وتوجّه إلى بطن وادي عرنة حيث اجتمع حوله آلاف الناس، فخطب فيهم خطبةً جامعةً فيها قواعد الدين وأصول الإسلام، وُعرفت هذه الخطبة بخطبة الوداع. ثمّ صلى بالناس الظهر، والعصر، وركب إلى موقف عرفة، فاستقبل القبلة، ووقف حتى غابت الشمس، وهناك نزل عليه قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ)،[٤] ولمّا غابت الشمس، أفاض من عرفات وتوجه إلى المزدلفة وهو يقول: (أيها الناسُ السكينةُ السكينةُ)،[٥] فصلّى في المزدلفة المغرب والعشاء ونام فيها.[٦]

وفي الصباح توجه الى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة ودعا الله تعالى وكبّره حتى طلع الصباح، ثمّ توجّه إلى مِنى مُلبّياً، فلمّا وصل رمى سبع حصيات، وكان يُكبّر مع كلّ حصاةٍ، ثمّ خطب بالناس، ووصّاهم أن يأخذوا عنه مناسكهم ويُبلّغوا عنه، وذكّرهم بضرورة السمع والطاعة لأمر الله -عزّ وجلّ- ورسوله، وكذلك بحرمة يوم النّحر وما له من فضلٍ عند الله تعالى، وحرمة مكّة وفضلها على غيرها من المدن، ثمّ انطلق إلى النحر، ونحر ثلاثاً وستين بدنةً بيده، وأمر علي بن أبي طالب فنحر حتى أكمل المئة، وبعدها حلق رأسه، ثم أفاض إلى مكّة فطاف بالبيت طواف الإفاضة، ثمّ عاد إلى مِنى وبات فيها إلى أن أصبح، وانتظر حتى زالت الشمس، ثمّ أتى على رمي الجمرات؛ فبدأ بالجمرة الصغرى، ثمّ الوسطى ثمّ جمرة العقبة، وفي كلّ جمرةٍ كان يرمي سبع حصيات وهو يُكبّر الله، وقضى أيام التشريق في مِنى، ثمّ نزل في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة إلى خيف بني كنانة من الأبطح، وأقام يوماً وليلةً، ولمّا أصبح توجّه -عليه الصّلاة والسّلام- إلى الحرم، وطاف طواف الوداع وأنهى -صلّى الله عليه وسلّم- بذلك حجّه، ثمّ عاد إلى المدينة المنورة.[٦]

خطبة الوداع

خطب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في حجة الوداع يوم عرفة خطبةً جامعةً شاملةً، بيّن فيها حرمة دماء المسلمين وأموالهم فيما بينهم، وأكّد على أنّ الإسلام قد أبطل أمور الجاهليّة كلّها، ومنها: وأد البنات، والكِبْر، والبطر، والرّبا، ثمّ أوصى بمعاملة النساء معاملةً طيّبةً، وبيّن واجبات المرأة وحقوقها، وأوصى بالاستمساك بالقرآن الكريم والسنّة الشريفة، وفي النهاية أشهد الصحابة -رضي الله عنهم- أنّه قد بلّغ الرسالة، وحريّ بالمسلمين تدبّر هذه الخطبة والعمل بها، فإنّه بذلك سيحقّق سعادتهم في الدنيا والآخرة، وقد جاء في نصّ هذه الخطبة العظيمة: (إنَّ دماءَكم وأموالَكم حرامٌ عليكم؛ كحرمةِ يومِكم هذا في شهرِكم هذا في بلدِكم هذا، ألا كلُّ شيءٍ من أمرِ الجاهلية ِتحت قدميَّ موضوعٌ، ودماءُ الجاهليةِ موضوعةٌ، وإنَّ أولَ دمٍ أضعُ من دمائِنا دمُ ابن ِربيعةَ بنِ الحارثِ؛ كان مُسترضَعًا في بني سعدٍ فقتلَتْه هُذيلٌ، وربا الجاهليةِ موضوعٌ، وأولُ ربًا أضعُ رِبانا؛ ربا عباسٍ بنِ عبدِالمطلبِ، فإنه موضوعٌ كلُّه، فاتقوا اللهَ في النِّساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمانِ اللهِ، واستحللتُم فروجهنَّ بكلمةِ اللهِ، ولكم عليهنَّ أن لا يُوطئنَ فُرُشَكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك، فاضربوهن ضربًا غيرَ مُبَرِّحٍ، ولهنَّ عليكم رزقُهن وكسوتُهنَّ بالمعروفِ، وقد تركتُ فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتُم به؛ كتابَ اللهِ، وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغتَ وأدَّيتَ ونصحتَ، فرفع سبابته إلى السماء وقال: اللهمَّ اشهدْ اللهمَّ اشهد!).[٥][٧]

121سورة آل عمران، آية: 97.

2↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 1337، صحيح.

3↑^ أ ب "الحج الرحلة المباركة"، ar.islamway.net. بتصرّف.

4↑ سورة المائدة، آية: 3. ^ أ ب رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن جابر بن عبد الله ، الصفحة أو الرقم: 1218، صحيح. ^ أ ب "حجة الوداع"، articles.islamweb.net. بتصرّف.

5↑ "الدروس المستفادة من خطبة النبي في حجة الوداع "،


 

 https://mawdoo3.com/%D8%AD%D8%AC%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AF%D8%A7%D8%B9